الجمعة، 28 ديسمبر 2012

السيل يعرف مجاريه..!



استخدام «الجص» لسد «شقوق السطح» وتنظيف «المرازيم» خوفاً من «سقوط السقف»

 
مرات - حمود الضويحي
    ما إن تتلبد السماء بالغيوم، التي تنبئ بقرب هطول المطر على القرية ذات المنازل الطينية، إلاّ وتجد أصحاب تلك المنازل قد شمّروا عن سواعدهم وأكملوا استعدادهم لمواجهة خطر هطول الأمطار، وربما تساقط البرد (الشبوب).
هذه الاستعدادات البسيطة تشمل حفنات من مادة (الجص) و(المحفرة) التي ينقل بها التراب والطين، و(المسحاة) و(المجرفة)، ولكل من هذه الأشياء مهمتها، فعندما تتساقط الأمطار بغزارة لابد من صيانة عاجلة للمنزل الطيني؛ تتمثّل في سد الشقوق في سطوح المنازل (خاصة اذا كانت مغطاة بطبقة اسمنتية)، حيث يتم إيقاف تساقط الماء داخل البيت، وذلك بذر مادة (الجص) على الشقوق التي تعد كالخياطة السريعة لها (فالجص سريع الجفاف)؛ فتراهم يقولون تعامل مع الجص بسرعة قبل أن يموت (أي يجف بسرعة فلا تستطيع تشكيله والإفادة منه).
نفوس ودعت الحياة غرقاً في أودية «الرمة»، «الحمض»، «الرشا»، «بيش».. وبقيت «جدة» شاهدة على المأساة

ومن ثم يأتي دور (المحفرة)، وذلك إذا انسلخ جزء من الجدار وسد (معبار) السيل - أي منفذه - ويطلق عليه (المرزام)؛ فيضع الطين في المحفرة ومن ثم يلقيه خارج السطح في الشارع ويفتح معبار السيل حتى لا يجتمع ويثقل السطح؛ فيؤدي إلى سقوط السقف، وربما البيت بكامله؛ فيكون قبراً لساكنيه، أما إذا كان المطر يصاحبه زخات من البرد؛ فيتم صعود السطح من قبل صاحب البيت بمشاركة زوجته وبنيه ويتم جمع البرد بالمجارف والقائه إلى خارج السطح حتى لا يثقل أيضاً السقف فيؤدي إلى سقوطه، أما (المسحاة)؛ فيأتي دورها خارج البيت، حيث يفتح صاحب البيت الطريق للسيل حتى يجد طريقه بعيداً عن أساس المنزل؛ فتجدهم يجمعون التراب حول أساس البيت لإبعاد الماء؛ كي لا يلين جدار البيت فينهار.. كل هذه الأمور تحصل أحياناً والمطر ينهمر.
تلك هي معاناة الأمس مع كل موسم أمطار، حيث تجد القرية كلها "خلية نحل" تسعى للحفاظ على يبوتها، وهنا تتجلى صور التلاحم الاجتماعي في أبهى حللها؛ حين يساعد الجار جاره وأهل الحي ساكنيه؛ فتجدهم يداً واحدة في سبيل الحفاظ على منازلهم جميعاً.. هكذا كان الناس قديماً في قراهم يستقبلون المطر بالفرح رغم تلك المخاطر التي تحيط بهم، مما لا يحسه جيل اليوم بعد أن منّ الله عليهم ببيوت محمية - بإذن الله - من تلك المخاطر بعد تقدم عمليات البناء الحديثة وزوال خطر الأمطار.
قسمة الماء بين المزارعين تمر بطريقة هندسية بين «الشعاب» وتنتهي عند «التبعيل»

قسمة الماء للمزارع
عندما تهطل الأمطار وتسيل الأرض تستفيد المزارع - وإن كانت صغيرة في ذلك الوقت وجلها من أشجار النخيل والبقول والقمح - من مياه تلك الأمطار، حيث يستغل الناس مجاري السيول لسقيا مزارعهم عن طريق توجيه تلك السيول إلى دخول المزارع لسقياها عن طريق الشعاب (يطلق على مفردها شعبه)، وهي عبارة عن مجرى قوي يغذي (الشعيب) الكبير الذي تتفرع منه الأودية؛ فالناس غالباً ما تجعل مزارعها قريبة من مجار السيول كي تدخلها؛ فالشعبة الواحدة تسيل العديد من المزارع وينساب الماء إلى المزرعة الأولى؛ فإذا امتلأت يخرج إلى المزرعة التي تليها، وهكذا بطريقة هندسية عجيبة يضمن استغلال هذه المياه لسقيا المزارع بكميات تعطي حاجة الزروع للماء؛ حتى يفيض الماء من آخر مزرعة إلى الفياض والرياض التي يستفاد من مياهها في (التبعيل) أي القاء البذور فقط، ومن ثم يستقر الماء في تلك الرياض لمدة أسابيع بعدها يأتي موسم الحصاد بعد أن يستتم الزرع وبدون ان يسقيها المزارعون فتكتفي بمياه الأمطار فقط.
الفرق واضح بين حده وحدي والسيل ما يغيّر مجراه كثر المباني

السكن في مجاري السيول
أجبرت طبيعة الأرض وحاجتها إلى المياه - التي تعتمد كلياً على الأمطار- الناس فيما مضى على اختيار موقع يكون قريباً من مجاري السيول؛ فالملاحظ لمواقع القرى قديماً يجد أن هذه القرى نشأت على ضفاف الأودية إن كانت، والبعض الآخر قد نشأ في بطن واد فعلاً، فترى البيوت والمزارع في آخر مجاري السيول بحيث إذا استفادت من مياه السيول يذهب الباقي إلى الرياض والفياض التي تجعل منها مياه الأمطار بساطاً أخضراً ومزهراً وجميلاً.

"وادي بيش" من أضخم الأودية في المملكة طولاً وعرضاً وعُمقاً
وادي الرمة
تشتهر المملكة بالعديد من الأودية الكبيرة الواسعة والطويلة، ومن أهمها "وادي الرمة" الذي يعد أهم ظاهرة طبيعية في المملكة؛ وذلك لإتساع عرضه وطوله وسيطرته على مساحة شاسعة، إذ يعبر البلاد من الغرب إلى الشرق، كما أنه أطول وادٍ في شبه الجزيرة العربية، حيث يبلغ طوله تقريباً أكثر من (1000كم)، ويبدأ من مشارف المدينة المنورة من السفوح الشرقية لجبال منطقتها وسفوح الحرات المجاورة، ويتجه نحو الشرق حيث يمتد إلى الكويت، مروراً بين جبال "أبانات" المشهورة بمنطقة القصيم، ليتسع وتظهر كامل معالمه الطبيعية، ويرفده أكثر من (300) رافدٍ من الشمال والجنوب، أبرزها "وادي الرقب"، و"وادي الجفن"، و"وادي الرشا"، على الرغم من أن الأخير ينتهي حالياً في نفود "الشقيقة" قبل أن يتصل ب "وادي الرمة"، إلاّ أن المؤكد أنه كان أحد روافده في الفترات المطيرة قبل أن تفصل بينهما رمال النفود.

(ساقي) يصل مياه الأمطار إلى المزارع
وقال الشاعر "يوسف الخليفة" في ذكر وادي الرمة:
وبارض الجزيره وادي الرمه انساب
تلقى له بكل النواحي مجاذيب
يمشي على حصبا الحزم كنه الداب
درهم رجيسه بين ذيك الدواريب
وتشير الدراسات إلى أن "وادي الرمة" يجري بكل طاقته حوالى ثلاث مرات كل مائة عام، وقد تم رصد ذلك خلال الأعوام التالية في (1234ه)، حينما جرى لمدة (40) يوماً، وفي عام (1253ه) ولم ترصد مدة الجريان، بينما في عام (1376ه) جرى لمدة (22) يوماً، وعام (1402ه) جرى الوادي لمدة (17) يوماً، بينما في عام (1429ه) جرى لمدة شهر كامل خلال ذي القعدة.

مجرى السيل يغير
وشهد "وادي الرمه" العديد من حالات الغرق في الماضي والحاضر، ولازالت جنبات الوادي تحكي قصص فراق هؤلاء الغرقى الذين جرفتهم مياه الوادي وضمّهم وحله، ومن أشهر حالات الغرق التي شهدها هذا الوادي العظيم هي قصة ذلك المعلم الشاب الذي لقي حتفه - تحديداً في وادي الجناح شمال بريدة - حيث حاول قطع الوادي بسيارته؛ فجرفه الوادي وسيارته ومات غرقاً، وبعد بحث طويل من قبل رجال البحث والدفاع المدني تم العثور على جثته، وبعد هذه الفاجعة تم بحث مشكلة حرم مجري وادي الرمة؛ فيما شكلت أيضاً فرق عمل أخرى في المدن والمحافظات في القصيم التي يمر بها وادي الرمة.

سيول جدة خلفت العديد من الضحايا البشرية والمادية
أشهر الأودية
ومن الأودية المشهورة "وادي الحمض" الذي يبلغ طوله من أعلى منابعه شرق "مهد الذهب" حتى مصبه جنوب محافظة "الوجه" ما يقارب (735 كم)، ويعد "وادي الرشا" وادٍ عظيم في عالية نجد، ومن أهم الأودية التي تجري في وسطها، ويبلغ طوله تقريباً (180 كم) من الشمال إلى الجنوب، ويسيل باتجاه الشمال حتى يصل "الخرما" و"خريمان" التابعة لمنطقة القصيم، ويعتبر "وادي الرشا" من أهم مراعي البادية قديماً وحديثاً؛ وذلك لكثرة نبات "الرمث"، وهو المحبب للإبل إلى جانب "الحمض" و"الفرس" و"الضمران" و"السواد" و"الهرم" و"الجثجاث"، فضلاً عن كون تلك النباتات تجعل لحوم تلك المواشي أكثر جودةً، وإذا جاء موسم الربيع تعد من أطيب مراعي نجد.

حائط طيني بقي وحيداً شاهداً على بنيان جرفته السيول
كما يُصنف "وادي بيش" من أهم أودية تهامة، يبلغ طوله نحو (145كم)، ومساحة حوض تصريفه تبلغ (5164كم2)، وتصل كمية المياه الجارية في الوادي في السنوات العادية أكثر من (مئة) مليون متر مكعب سنوياً، حيث يجمع أكبر كمية مياه في تهامة كلها من المنطقة الجبلية المطيرة (550 مللم سنوياً)، والممتدة من جبال بني مالك جنوباً حتى جبال تمنية شمالاً، ويصله من الروافد في هذه المنطقة عددٌ لا حصر له.
إنشاء السدود
على الرغم من أن الناس قديماً يحلون في مجاري السيول أو قريباً منها، إلاّ أنهم في ذات الوقت كانوا يتعاملون معها بحذر شديد، حيث تكون الفائدة باستغلال مياه السيول وبعد الاكتفاء منها كانت هناك مخارج للمياه إذا فاضت تمنع السيول الجارفة من إغراق الأراضي وهدم البيوت، وإذا علم الناس أن في وادي من الأودية خطر عليهم وعلى قراهم ومزارعهم عملوا على إنشاء السدود على الطريقة البدائية، وذلك برص الحجارة الكبيرة التي كانت تحجز مياه الأمطار وتحد من خطرها بحيث يستفيدون من فيضانات السدود للري وفي منافعهم الأخرى، وبعد ذهاب موسم الأمطار كانوا يفتحون تلك السدود لسقيا زروعهم ومواشيهم، وقد أُنشئت العديد من السدود الحديثة في أماكن تلك السدود القديمة، وفي عدد آخر من الأودية.

"وادي حنيفة" أثناء جريانه
ما الذي تغير..؟
كانت الأودية ومجاري السيول موجودة من مئات السنين، ولم يكن هناك خطر يهدد إنسان ذلك الزمن.. فما الذي تغيّر الآن لتصبح الأودية خطرة على سكانها؟.. قد نجد الجواب في تسبب الإنسان نفسه في تعيير مجرى السيل وعكس قوى الطبيعة، فمع زيادة السكان وحاجتهم الى أراض جديدة للسكن قريباً من القرى والمدن غيّر العديد منهم مجرى سيول الأودية القريبة، ودفن عدد من هذه الأودية والمجاري، وإنشاء بيوت للسكنى عليها؛ فتعددت الأحياء التي حلّت محل الأودية، متناسين أن هذا خطر كبير عليهم وظناً منهم أنهم بمأمن من جريان هذه الأودية، وبحثها عن مجاريها؛ ليكونوا في موقع خطر داهم قد يجتث ما في هذا الوادي من بيوت ومزارع وسكان، والشواهد على ذلك كثيرة من حصول عدد من الفيضانات التي جرفت المنازل والمزارع وأهلكت من أهلكت وأبقت عددأ من الناس بلا مأوى يأوون اليه، وهكذا فطن لذلك القدماء؛ فهاهم يقولون: (السيل ما يغيّر مجراه)، كما قالوا: (كل وادي سال لابد ما انه يسيل)، وقال شاعر:
الفرق واضح بين حده وحدي
والسيل ما يغيّر مجراه كثر المباني
وقال شاعر آخر:
من شاخ ما هو بشيخ لا بد عرقه يرده
ومن سكن في جنب وادي لا بد سيله يشله
وهكذا عند تنفيذ الطرق الممتدة بين القرى والمدن، وعند التخطيط وترسيم الطريق قبل سفلتته؛ يتم غالباً الاستعانة بأهل الخبرة من سكان تلك المدن والقرى التي سيمر بها الطريق؛ لكي يستعان بهم وبخبرتهم في معرفة مجاري السيول للانعطاف عنها، وعمل عبّارات تصريف للسيول كي لات جرف الطريق، ومن هذا المنطلق فمن باب أولى أن يستعان بأهل الخبرة في كل مدينة وقرية عند اختيار مواقع المخططات السكنية الجديدة للابتعاد بها عن مجاري الأودية ومخاطر السيول، فهؤلاء الخبراء خاصة من كبار السن لهم علم ودراية بمجار السيول ومعرفة أخطارها، فالأودية موجودة منذ مئات السنين وحولها القرى منتشرة، ولم يحدث مثل ما يحدث اليوم من حالات غرق للمنازل وللسكان وكوارث تخلفها السيول، وذلك نظراً لتمتع تلك القرى بميزة الابتعاد عن مجاري السيول الجارفة والأودية.
وفي دليل على الكوارث التي تخلفها سد مجاري السيول أو البناء في مجاريها لازالت كارثة غرق مدينة جدة عالقة في الأذهان التي خلّفت جراء استمرار هطولها عام 1429ه العديد من المآسي، حيث غرق أكثر من مائة شخص، إضافة إلى تلف المئات من السيارات وتضرر عدد من المنازل.
قصص الغرقى
حدث فيما مضى العديد من حالات الغرق لعدد من المدن والقرى جراء مرور مجاري السيول بها، حتى شهدت بعضها حوادث فياضانات، وهدم بيوت وغرق، وقد كانت تلك القرى والمدن تؤرّخ بتاريخ تلك الأحداث، وأشهرها "سنة الغرقة" التي حدثت في "بريدة" عام (1376ه)، حيث هطلت أمطارعظيمة تلك السنة واجتاحت السيول منطقة القصيم، وهدّمت البيوت، فكان الناس يستغيثون الله - عز وجل - أن يُمسك السماء بعد أن تعطلت الدراسة، وسقطت البيوت وخرج الناس إلى البراري يفترشون الأرض ويلتحفون السماء حيث كانوا يخيمون بالقرب من مستشفى بريدة المركزي حالياً لأنه مكان مرتفع، والغني في تلك الفترة من يملك بساطاً يرفعه بأعواد يتوقى المطر، واستمرت الأمطار مدة أربعين يوماً وفيها سقط الجامع الكبير في "بريدة" من شدة المطر.
ومن تلك الحوادث القريبة أيضاً الغرق الذي شهدته محافظة "مرات" عام (1395ه) وتأثرت منه أيضاً "ثرمداء"، حيث خرج الناس إلى المساجد وتركوا منازلهم، والبعض الآخر خرج إلى مكان مرتفع عن الأرض ونُصبت الخيام وبقوا عدة أيام حتى زال الخطر، وقد وقع عدد من المنازل الطينية في البلدتين جراء تلك السيول الجارفة.
الطمع في مياه السيول!
وفي قصة توضح جلياً أن مياه السيول لا يمكن التحكم بها والاستحواذ عليها وتطويعها؛ ما حصل لأحد أصحاب المزارع، حيث دفعه طمعه في امتلاك ماء السيل من الوادي الذي يسيل مزرعته والمزارع التي خلفه إلى وضع حواجز ترابيه (عقوم) بارتفاع شاهق في محاولة منه لحجز أكبر كمية من الماء في مزرعته، وبالفعل فقد تجمع لديه ماء كثير وحوض واسع في أرضه ممتلئ بمياه السيول يضمن أن يكفيه لعدة أشهر لسقيا مزرعته، مما حرم المزارع الأخرى من مياه السيول، وبعد عدة محاولات من جيرانه من أصحاب المزارع في الاكتفاء بما يسقي زروعه وترك الباقي يدخل مزارعهم كالعادة رفض، وبعد تكرار تساقط الأمطار صارت المياه التي احتجزها تزيد مما يشكل خطراً على مزرعته والمزارع التي خلفه لو انقطع الحاجز الترابي الذي وضعه فتقدموا بشكوى ضده، ولكن الماء كان أسبق حكماً فقد تحطم الحاجز الترابي وجرف زروعه و(طمي) مزرعته وهو التراب الزراعي المميز للزراعة الذي تجلبه السيول الى المزرعة، وجرف أرضه كلها وكاد أن يتسبب في سقوط مبانيه والحق عدد من الأضرار في المزارع التي تليه، فكان هذا درساً علمته اياه طبيعة السيول التي لا يمكن أن تُطوع فلكل واد مجراه مهما حُجز. جريدة الرياض

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق